ليتك لم تتعلق!
أحسَّ بجوعٍ ينهشُ داخله، بجفافٍ يزحفُ إلى زوايا مظلمةٍ من روحه… كان يشعر أن شيئًا ما ينقصه، لكنه لم يكن يدرك ماهيته. قرَّر أن يُذيب الجليد الذي بناه، أن يهدم الحاجز الذي فصله عن فطرته، أن يستعيد شيئًا من ذاته التي خبت مع الأيام، ففعل.
خاض أيامًا يُحاول صُنع صُدفة، افتعل اللقاءات، انضمَّ إلى مجتمعات القراءة والكتب، القهوة والشاي، الأشجار والطبيعة، بحثًا عن ذلك الجزء الضائع منه. لكنه لم يكن يعلم أن الصدف لا تُصنع، بل تأتي حين لا ننتظرها. وفي لحظةٍ ما، وجدها!
إشعارٌ برسالةٍ مُعلَّقة، أسرع إليها، قلبه يخفق وهو يقرأ… تساؤل حول فكرة، فأجاب، ثم انتظار، ثم إجابة، ثم رسالة أخرى… وتوالت الكلمات كأنها نهرٌ يتدفق في أرضٍ عطشى. تحوَّلت المحادثة من الفِكر إلى شخوصها، من؟ أين؟ متى؟ كم؟ لماذا؟ كيف؟ كل سؤال كان يشعل في قلبه نبضًا جديدًا، وكل إجابة كانت تُبعثِر يقينه، ثم تعيد ترتيبه على مهل.
لم يكن الأمر مجرد محادثة… كان استعادةً للروح، كان ولادةً جديدة.
ابتكر طُرقًا ليحافظ على استمرار الحديث، يتعمَّدُ أن يبتر جملةً قبل النوم ليُكملها في الصباح، “صباح الخير” تتبعها “مساء الخير”، “هل تناولتِ قهوتكِ؟”، “بأي كتابٍ أضعتِ وقتكِ اليوم؟”، “ما لون السماء لديكِ الآن؟”… وكُل مرة يزداد خفقان القلب أكثر وأكثر… لم يكن مجرد حديث، كان وطنًا صغيرًا يبنيه بين الكلمات، عالمًا يلوذ به من واقعه الباهت.
وفي لحظة صفاءٍ مع نفسه، فتح الخريطة، بحث عن اسم مدينتها، حسب المسافة بينه وبينها، عدد الساعات بالطائرة، بالسيارة، بالأمل! كيف سيذهب إليها؟ هل يصطحب أهله؟ أمَّه العجوز التي بالكاد تسير؟ أباه الذي سيرفض تمامًا الأمر؟ أم يذهب وحيدًا، ليُثبت لها – قبل الجميع – كم يريدها، ليُبرهن أن حياته بدونها محض فراغٍ وكذب؟ ليقول لها: “أنتِ أرضي وسمائي، ليلي ونهاري، وبغيركِ لا يكون أيٌّ من ذلك!” لكنه يخشى أن يطلب رؤيتها، يخشى أن يجرح عفتها، يخجلُ من ندوبٍ حفرتها المراهقة على وجهه، ومن طيشِ الشباب الذي ترك بصماته على أيامه.
هل سيقبلها واقعها كما قبلها قلبه؟ هل ستراه كما يرى نفسه، أم سترى فيه شخصًا لم يكن جزءًا من عالمها؟
يعيش في قلقٍ متواصل، ماذا لو رفضت؟ أو رفض أبواها؟ أو الحياة؟ أو المسافة بينهما؟ كم ليلةً ونهارًا تفصل بينه وبينها؟ كم معركة عليه أن يخوضها ليُثبت رجولته ومسؤوليته، ليكون جديرًا بها؟
لم يكن يريد حبًا بسيطًا، لم يكن يبحث عن كلمات عابرة، بل كان يريد حياةً كاملة، يريد أن يكون لها كما كانت له، يريد أن يحرق المسافات، أن يهدم الواقع، أن يمدّ يده عبر الشاشة ليحملها إليه… لكنه كان يعلم أن الحياة لا تمنحنا كل ما نريد، وأن الأقدار لا تُفاوض العشاق.
خرق عِفَّة قلبه، أحبها بكُل طاقته وجوعه، ولم يُراعِ المسافات، ولا اختلاف العوالم، حتى صار قلبه جزءًا لا يملكه من جسده… قتل براءته، حتى بات غير صالحٍ للاستخدام.
كيف ستكون الحياة غدًا، عندما يكتشف أن ما عاشه كان محض وهم؟ عندما يدرك أن الكلمات التي جعلته رجلًا واثقًا في نفسه، والهمسات التي أيقظت رجولته المُعطَّلة، لم تكن سوى سراب؟
“وجدتُ قلبًا فارغًا فملأته…” هذا ما كان يُردد منذ البداية، ولكن… هل كانت تستحق ذلك الفراغ ليملأها؟ كيف ستشعر حين تجد نفسها داخل دائرة المقارنة مع كل فتاةٍ في واقعه، ومع فُرص الارتباط الأقرب والأكثر واقعية؟ كيف سيكون حال قلبه، وهو يتشظى بين واقعٍ وخيال، بين حقيقةٍ وسراب؟
وفي النهاية، عندما تتضح الحقيقة، عندما ينكشف الوهم، عندما يدرك أنه كان يُمسك بالريح ظنًا منه أنها يدها، ماذا ستقول له حينها؟
“ليت الجليد لم يذب، ليت الحواجز لم تُهدم… ليتك لم تتعلَّق!”